أصوات التغيير: سدّ فجوة الوعي السياسيّ لدى الشباب السوريّ
"كبرت وانا اسمع المقولة الرهيبة: الجدران لها آذان، وهذا يعني أنه لا يُسمح لك بالتحدّث في السياسة. ولا يُسمح لك حتّى بالتفكير!" هذه الكلمات المؤثرة الّتي قالتها لبنى الأسود، طالبة الحقوق السوريّةُ في جامعة لايبنتز في هانوفر بألمانيا، تلخّص الأجواء القمعيّة الّتي خنقت الخطاب السياسيّ لدى الشباب السوريّ لعقودٍ من الزمن.
لماذا نحتاج إلى الوعي السياسيّ؟
الوعي السياسي ليس مجرد مصطلحٍ فاخرٍ، بل هو العمود الفقريّ لمستقبل أيّ بلدٍ. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة الّتي تكبّدها السوريّون والسوريّات نتيجةً للصراع، الّا أنّ الشباب السوريّ يُظهر قدراً كبيراً من المرونة والرغبة في المشاركة السياسيّة. ومع ذلك، فإن جهودهنّ/م غالباً ما يعوقها التثقيف السياسيّ غير المتسق ولمتحيّز. وبالتالي، يكبر العديد من الشابّات والشبّان السوريّات/ين محروماتٍ/ين من الأدوات الأساسيّة اللازمة لفهم السياق السياسيّ السوريّ المعقّد والتوغل فيه.
فمنذ اندلاع الثورة السورية في عام ٢٠١١، أمطرت أجهزة الدولة الشباب بدرجاتٍ متفاوتةٍ من التلقين السياسيّ والدعاية (البروباغندا). رسمت وسائل الإعلام الّتي تسيطر عليها الدولة في الداخل السوريّ رواياتٍ مختلفةً تماماً عمّا ترسمه المعارضة، ممّا أدّى إلى الارتباك والانقسام بين الشباب. ومن ناحيةٍ أخرى، تعرُّض الشتات للممارسات الديمقراطيّة في بلدانٍ أخرى ممّا وسّع منظورهنّ/م عن الحياة السياسيّة. ولّد هذا تنوّعاً في وجهات نظرهنّ/م على نطاقٍ أكبر، وفي بعض الأحيان، خلق نوعاً من الانفصال عن واقع أولئك الذين يعيشون داخل سوريا. كان العديد منهنّ/م صغاراً في السن نسبيّاً عندما اندلعت الثورة. لذلك، يفتقر الكثير منهنّ/م الى الفهم الشامل لهذا السياق السياسيّ واهميّته في التاريخ السوريّ، ممّا يجعلهنّ/م أكثر عرضةً لتبنّي الروايات السائدة في المنطقة.
سوريا: خليطٌ من الأيديولوجيات
تخيل لحافاً مصنوعاً من قطع غير متطابقة تماماً؛ هذا هو شكل المشهد السياسيّ في سوريا. تدفع المناطق الّتي تسيطر عليها الحكومة بسرديّاتٍ مؤيّدةٍ للنظام، في حين تروّج المناطق الخاضعة لجماعاتٍ غير حكوميّةٍ، مثل هيئة تحرير الشام أو قوّات سوريا الديمقراطيّة، لأيديولوجيّاتها الخاصّة. يخلق هذا فهماً سياسيّاً متبايناً بين الشباب، حيث قد ينظر شخصٌ ما في دمشق إلى الصراع بشكلٍ مختلفٍ تماماً عن شخص آخر في إدلب أو الحسكة. فتحقيق الوحدة السياسيّة بين الشباب السوريّ يشبه محاولة تجميع أحجيةٍ مع قطعٍ مفقودةٍ. لا يكمن التحدي في هذا التنوع السياسيّ بحدّ ذاته، بل في هيمنة السرديّات المتضاربة الّتي تمنع وجود مبادئ مشتركةٍ مثل الديمقراطيّة والعيش المشترك. فهذا الوعي المجزّأ يجعل من الصعب على الشباب التجمّع حول أهداف سياسيّةٍ مشتركةٍ.
إذاً، يزيد هذا الوعي السياسيّ المُجزّأ تشرذماً بسبب هياكل الحوكمة المحليّة القائمة حاليّاً، والّتي لا تؤثّر على وسائل الإعلام فحسب، بل على كلّ جانبٍ من جوانب الحياة اليوميّة، ممّا يعزّز هذه الأيديولوجيات السياسيّة المختلفة. فالسرديّات المتضاربة هذه بين الشباب هي نتيجةٌ مباشرةٌ لغياب المعلومات غير المتحيّزة والحضور القويّ للدعاية. وتزيد أنظمة التعليم من تفاقم هذه المشكلة، فغالباً ما تروّج لأجنداتٍ سياسيّةٍ بدلاً من تشّجيع التفكير النقديّ. ففي المناطق التي يسيطر عليها النظام، تفرض المدارس على الطلاب الانتساب لمجموعاتٍ مثل منظّمة طلائع البعث، وتحثّهم على التدريب العسكريّ. وفي الوقت نفسه في شمال شرق سوريا، يروّج المنهج الدراسيّ لأيديولوجيّة حزب الاتحاد الديمقراطيّ. وفي شمال غرب سوريا، تدفع الفصائل المدعومة من تركيّا برواياتٍ مختلفةٍ أيضاً. تمنع هذه الأنظمة التعليميّة المتحيّزة والمتناقضة الشباب السوريّ من تطوير فهمٍ شاملٍ ونقديٍّ لبيئته السياسيّة.
يواجه أولئك ممّن يحاولن/ون إطلاق مبادراتٍ سياسيّةٍ حقيقّةً عقباتٍ ضخمةً في محاولاتهنّ/م. أشار بكري الحلّاق، نائب الأمين العام لاتّحاد طلبة سوريا المناهض للنظام في أعزاز شمال غرب سوريا، إلى أنّه على الرغم من الجهود المبذولة لدفع المشاركة السياسيّة، فإنّ النشاط السياسيّ المُنظّم لا يزال رهينةً للديناميّات الإقليميّة وقرارات الدول المجاورة. يجعل هذا من المستحيل تقريباً على الشباب الانخراط في نُهوجٍ أو أفعالٍ سياسيّةٍ ذات مغزى.
ديناميّات الشتات
يواجه السوريّون والسوريّات من الشباب في الشتات مجموعةّ خاصّةً من التحديّات. يعرّض العيش في أماكن مثل ألمانيا أو أستراليا هذه الفئة لبيئاتٍ مختلفةٍ تـؤثّر على وعيهنّ/م السياسيّ. وقد قارن سامي عقيل، مستشارٌ في منظمة INSO سوريا، التجربة السياسيّة في سوريا وأستراليا بمقارنة سيّارة فياتٍ بسيّارة فيراري. لقد صُدم بمستوى المُساءلة والمحاسبة في السياسة الأستراليّة، والّتي تختلف تمام الاختلاف عما اعتاد عليه في سوريا. يسلط هذا الاختلاف الكبير الضوء على مدى بعد النظام السياسيّ في سوريا عما يختبره الشباب في الخارج، ممّا يزيد من تعقيد فهمهنّ/م وانخراطهنّ/م في السياسة السوريّة.
غالبًا ما ينخرط شباب الشتات في سياسات البلدان المضيفة، فيكتسبن/ون رؤىً جديدةً، لكن يخلق أيضاً شعوراً بالانفصال عن الواقع السوريّ. إنّ الموازنة بين فهمهنّ/م السياسيّ الجديد مع البقاء على اطلاع بالقضايا في الوطن يولّد مشهداً معقّداً في الوعي السياسيّ. يمكن أن يؤدّي هذا الانفصال إلى الشعور بالإحباط والعجز حيث يحاولن/ون التوفيق بين هذين العالمين المختلفين.
يمكن أن يكون الوصول إلى التعليم الملائم ثقافيّاً والمُثري سياسيّاً صعباً بسبب الحواجز اللغويّة والاختلافات الثقافيّة والافتقار إلى الموارد المخصصة. فالضغوط الّتي يتعرض لها اللاجئات/ون السوريّات/ون للاندماج في البلدان المضيفة تطغى أحياناً على أهميّة الحفاظ على الروابط مع تراثهنّ/م السوريّ وجذورهنّ/م السياسيّة. يؤدي هذا إلى فقدان الهويّة الثقافيّة والسياسيّة وممّا يجعل من الصعب عليهنّ/م الانخراط بشكلٍ فعّالٍ في مستقبل سوريا السياسيّ.
تحدٍّ كبيرٌ آخر يواجه الشباب السوريّ في الشتات ينبع من تجاربهم المؤلمة مع السياسة في وطنهم. فقد عانى الكثير منهنّ/م من قمعٍ سياسيٍّ شديدٍ وعنيفٍ، فترسّخ عندهنّ/م انعدام ثقةٍ عميقٌ في الأنظمة السياسيّة بشكلٍ عامٍّ. وكثيراً ما أدّت هذه الصدمة إلى خيبة أملٍ كبيرةٍ تجاه السياسة، ممّا دفع البعض إلى الانسحاب تماماً من المشاركة فيها. فكنّ/كانوا يتجنبن/ون أيّ شكلٍ من أشكال المشاركة السياسيّة وينأون بأنفسهنّ/م عن هويتهنّ/م وتراثهنّ/م السوريّ في محاولةٍ للهروب من الألم المرتبط بتجاربهنّ/م الماضية.
وقد أدّى هذا الانقسام إلى ظهور مجموعتين متمايزتين بين شباب الشتات السوريّ: تضمّ الأولى أولئك ممّن يسعين/ون بنشاطٍ إلى الانخراط سياسيّاً، سواء في بلدانهنّ/م المضيفة أو فيما يتّصل بالشؤون السوريّة، والثانية تشمل أولئك ممن أرهتقهنّ/م تجاربهنّ/م المؤلمة لدرجة تجنّبهنّ/م كلّ ما هو سياسيٌّ. يزيد هذا الانقسام الداخليّ من تعقيد الجهود الراميّة إلى توحيد الشباب السوريّ حول أهدافٍ سياسيّةٍ مشتركةٍ. فحتى داخل الشتات نفسه، نجد انقساماً كبيراً في المواقف تجاه مفهوم المشاركة السياسيّة.
من خيبة الأمل السياسيّة إلى المجتمع المدنيّ
شهدت المبادرات المدنيّة والشبابيّة تحوّلاً كبيراً. توجّه العديد من الشباب السوريّ نحو المجتمع المدنيّ والمشاريع المجتمعيّة كبديلٍ عن المشاركة السياسيّة التقليديّة. وجد بعضهنّ/م في المجتمع المدنيّ طريقاً أكثر جدوى للمساهمة، هارباتٍ/ين من الإحباط الّذي أصابهنّ/م بسبب الهيئات السياسيّة القديمة وغير الفعّالة الّتي لا تزال تهيمن عليها نفس الوجوه القديمة، والّتي لا تحرز الكثير من التقدّم أصلاً.
دفع هذا الشعور المتكرّر بخيبة الأمل نتيجة عدم المشاركة السياسيّة الفعّالة العديد إلى فقدان شغفهنّ/م بالسياسة تماماً. ونتيجةّ لذلك، فإنّ فشل هذه الهيئات السياسيّة في التكيف وإدراج أصوات جديدةٍ أدّى إلى شعور الكثير من الشباب بالاستياء والانفصال عن الحياة السياسيّة.
إنّ الانخراط في العمل المدنيّ والمبادرات الشبابيّة أمرٌ بالغ الأهميّة بالتأكيد. لكن، من المهمّ أن نتذّكر أنّ انخراط الشباب في هذا المجال كان محدوداً قبل عام 2011 بسبب السيطرة الإيديولوجيّة والقيود التنظيميّة. وفقًا لناشطٍ سياسيٍّ مقيمٍ في مناطق سيطرة النظام، كان العديد من الشباب ممّن توجهن/وا إلى العمل المدنيّ نشطاتٍ/ين سياسياًّ في المراحل المبكرة من الثورة. ومع ذلك، فالمضايقات المستمّرة والصعوبات في الحصول على الوثائق الرسميّة والضغوط المجتمعيّة والشعور السائد باليأس بشأن التغيير السياسيّ، دفعتهنّ/م إلى التركيز على العمل المدنيّ من خلال المبادرات الشبابيّة والجمعيّات المحليّة. قد يخلق هذا التركيز الحصريّ على العمل المدنيّ فجوةً مستقبليّةً كبيرةّ، حيث لا يزال المشهد السياسيّ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى وجوهٍ وأفكار جديدةٍ. وقد أدّت هيمنة نفس الشخصيات على العمل السياسيّ إلى خيبة أملٍ واسعة النطاق، مما يجعل من الصعب على الحركات السياسيّة الجديدة اكتساب أيّ زخمٍ.
من التشرذم إلى الوحدة
تتطلّب معالجة فجوة الوعي السياسيّ بين الشباب السوريّ حلولاً مبتكرةً وجذّابةً. تخيّل/ي الإمكانات الهائلة للشباب السوريّ، سواءً في الداخل أو في المهجر، عندما يتوحّدن/ون حول فهمٍ مشتركٍ ورؤيةٍ لمستقبل موحّدةٍ لمستقبل بلادهنّ/م. لا يمكن تحقيق هذه الرؤية إلا من خلال الإصلاحات التعليميّة الّتي تحفز التفكير النقديّ وتقدّم رؤىً سياسيّةً متوازنةً.
يكمن الحلّ في سوريا في تعزيز بيئةٍ تشجّع العقول الشابّة على التساؤل والنقاش والتحليل. ويمكن للبرامج الّتي تشجّع التفكير النقديّ وتُقدّم وجهات نظرٍ متنوّعةً أن تكسر حلقة التعليم المنحاز. أمّا بالنسبة لأولئك في الشتات، فإنّ سدّ الفجوة يعني إنشاء مناهجٍ تربط التاريخ السياسيّ السوريّ والأحداث الجارية، وتقدّم فهماً شاملاً لتراثهنّ/م وتحديّاته المعاصرة.
أصبحت المنصات الرقميّة بمثابة مساحة التجمّع المفضّلة للشباب السوريّ من خلفيّات ومناطق مختلفةٍ، مُتيحةً لهنّ/م التواصل وتبادل الخبرات ومناقشة القضايا السياسيّة. ويمكن لهذه المساحات عبر الإنترنت، سواءً من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ أو مجموعات المناقشة أو اللقاءات الافتراضيّة، التغلب على المسافات الجغرافيّة وبناء شعورٍ بالوحدة والهدف المشترك. لكن ليس لدى الجميع إمكانيّة الوصول إلى هذه الأدوات الرقميّة، ممّا يترك بعض الشابّات والشباب السوريّات/ين خارج دائرة النقاش. ولهذا السبب، من الضروريّ الجمع بين الجهود الرقميّة والمبادرات الميدانيّة ليحصل الجميع على فرصةٍ لسماع أصواتهنّ/م والمساهمة في تشكيل النقاش السياسيّ الأوسع.
يشكّل تشجيع المشاركة السياسيّة في البلدان المضيفة خطوةً حاسمةً أخرى. فيمكن للشباب في الشتات اكتساب خبرةٍ مباشرةٍ في الممارسات الديمقراطيّة والحوكمة من خلال المشاركة فيها محليّاً، عبر التصويت والمناصرة مثلاً. ولا تعمل هذه المشاركة على إثراء فهمهنّ/م للسياسة فحسب، بل تُعدّهنّ/م أيضاً للمساهمة بفاعليّةٍ في الشؤون السورية.
ولكن، يجب أن تٌدّعم هذه الجهود ببيئةٍ مستقرّةٍ وسلميّةٍ. يُشكّل تنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم ٢٢٥٤ والّذي يضمن حلّاً سياسيّاً وانتقالاً سلميّاً للسلطة في سوريا أمراً أساسياً. وبدون هذا الأساس، ستواجه المبادرات التعليميّة وجهود المشاركة صعوبةً في أن تترسّخ وتزدهر.
المستقبل بين أيديهنّ/م
سواءً في الداخل أو الخارج، الشابات والشباب السوريّات/ين هنّ/م حاملات/و شعلة مستقبل بلادهنّ/م. فهنّ/م يحملن/ون في داخلهنّ/م أحلام وآمال جيلٍ يتوق إلى السلام والعدالة والديمقراطيّة. إنّ رعاية المبادرات الّتي تعزز وعيهنّ/م السياسيّ ومشاركتهنّ/م ليست مهمّةً فحسب، بل حاسمةً في عمليّات إعادة البناء والتجديد في سوريا.
لا تقتصر رحلتهنّ/م على التغلب على التحديات فقط، بل تتطلّب إشعال شرارة التغيير لتُحوّل ألمهنّ/م إلى تقدّمٍ، وأحلامهنّ/م إلى حقيقةٍ. مستقبل سوريا ليس بين أيديهنّ/م فحسب، بل في قلوبهنّ/م الّتي ستقود الطريق.
Friedrich-Ebert-Stiftung
مشروع سوريا في مؤسسة فريدريش إيبرت
Berliner Häuser
Hiroshimastraße 17 and 28
D-10785 Berlin