تتناول التدوينة مسار الحركة الاحتجاجية السورية في محافظة السويداء، من وجهة نظر ناقدة لمجريات الحراك وإمكاناته السابقة والحالية. كما أحاول من خلالها تفسير بعض الظواهر التي أراها قد أضرَّت بفعالية هذا الحراك على المستوى السوري العام، وآثار تأطيره بحدود نموذج الثورة السورية عام 2011.
تكثر المداخل التي قد نسلكها في محاولة تعريفنا للمواطنة ضمن إطارها السياسي. فالمواطنة في معناها الاجتماعي التفاعلي تتناول الأفراد في علاقاتهنّ/م البينيَّة، كما علاقاتهنّ/م بأوطانهنّ/م في البعدين المكاني والمؤسساتي. وتعتبر مشاركة الأفراد في صناعة القرارات داخل بلادهنّ/م هي أكثر هذه المداخل وضوحاً. ولهذه المشاركة الكثير من الطرق والأساليب الدستورية والمقوننة والمحفوظة كحقوق للمواطنات/ين، كحقّ الاقتراع على سبيل المثال. وإذا ما فقدت هذه الحقوق معناها، أو أُفرغت منه، فإنّها تفتح الباب لآخر احتمالات هذه الأشكال وأكثرها صداميّةً وهو الاحتجاج. فالاحتجاج، وإن تمّ اعتباره آخر هذه الطرق وأكثرها صداميّةً إلّا أنّه أحد المؤشرات الدالّة على سلامة المناخ السياسي أو توعّكه، وهو المقوِّم له أيضاً. ففي وسط الاغتراب التام واللامبالاة الناتجين عن فشل خلق المسار الديمقراطيّ في بلادنا، لن نستغرب توجُّه الآلاف من الناس للاحتجاج، محتدمات/ين في الشوارع لاسترداد حقوقهنّ/م، بالثورة حيناً وبالسياسة أحياناً.
تشهد مدينة السويداء متذ عامٍ مضى حركةً احتجاجيّةً متواصلةً أطلقها مجموعة من الناشطين والناشطات إلى جانب مجموعةٍ من الفصائل المحليّة والقوى الدينيّة والتقليديّة داخل المحافظة. أعادت هذه الحركة الاحتجاجيّة السلميّة إحياء الكثير من المشاعر في نفوس السوريّات/ين. وأُعيدت للذاكرة السورية صورة الاحتجاج الشعبي في الساحات العامّة واعتباره المفقود منذ أعوام، بعد أن تمّ تجاهله في السابق من قبل السلطات واتهامه بأنّه أحد الأدوات الخارجيّة للعبث بأمن البلاد، فضلاً عن انحسار دوره وفقدانه شيئاً فشيئاً داخل جسد الثورة السوريّة.
وقبل الغوص في تحليل أسباب وتداعيات حراك السويداء، قد يكون من الضروري أن نحاول فهم مسار الحركة الاحتجاجيّة فيها. فلا شكّ في أنّ هذه الحركة الاحتجاجيّة نشأت في مساحة التعبير الّتي شقَّ السوريّات/ون حدودها بدمائهنّ/م عبر حراكهنّ/م على مدار الأعوام الماضية، إلّا أنها لا تنتمي بشكلٍ كلُّيٍّ لهذا الحراك. فالحراك الشعبيّ ذو الحاضنة الشعبيّة داخل مدينة السويداء قد انطلق فعليّاً عام 2020، بعد أن قام عدد من الناشطين والناشطات في المدينة بحملة احتجاجيّةٍ تحت عنوان بدنا نعيش بكرامة، والّتي أتت كردّة فعلٍ على تدهور الأوضاع المعيشيّة مع دخول مفاعيل قانون قيصر وآثار الإغلاق الّذي قررته الحكومة نتيجةً لانتشار فايروس كورونا. كانت هذه الحملة هي الموجة الأولى من الاحتجاجات الّتي عادت لتتجدّد مع بدايات عام 2022 في موجتها الثانية، ومن ثم الثالثة في نهاية العام نفسه، والّتي تطوّرت حينها إلى صدامٍ مباشرٍ مع قوى الأمن بعد إحراق مبتى المحافظة من قبل المحتجّات/ين وسقوط ضحاياً من الجهتين.
شكَّلت احتجاجات السويداء مرحلةً جديدةً من الاحتجاجات السوريّة، والّتي أوحت بدورٍ ممكن في تغيير صورة الاحتجاج ومآلاته في مخيّلة السوريّات/ين. فالخصوصيّة الّتي تتمتع بها المحافظة لناحية الموقع والمكوّنات الاجتماعيّة كان لها الأثر في دحض الرواية الرسميّة الأولى حول المنحى الطائفي لاحتجاجات العام 2011. كما أنّه كان للشعارات الّتي أشعلت شرارة هذه الاحتجاجات دورٌ في طرح قضايا جامعةٍ للمواطنات/ين ممّن يرزحن/ون تحت وطأة الوضع المعيشيّ المضني. هذه القضايا، وإن كانت تبدو بعيدةً عن سلفها من القضايا والشعارات على مدار الأعوام الماضية، إلّا أنّها قد تمهد لتشكيل أرضيّةٍ احتجاجيّةٍ جديدةٍ جامعةٍ للسوريّات والسوريّين في باقي المحافظات، وتساهم ربّما في رسم حدود ميدان مناوراتٍ سياسيّةٍ جديدٍ، لا يختلف الشعب على ضيق مساحته، إلّا أنّه يمكنهنّ/م من خلاله الخروج عن حدود الميدان السابق المرسوم من قبل السلطة، المحدود بعناصره والمحسوم في أفقه، والّذي لا احتجاج فيه يعكِّر صفو وئامه. لكن هذا كلُّه لم يحصل، بل أصبح إرث ثورتنا عبئاً على جيل المحتجّات/ين الجديد.
في كتابه حول بنية الثورات العلميّة، يرى الفيلسوف الأمريكي توماس كوهن أنّه في كلّ عصرٍ يسود نموذجٌ علميٌّ خاصٌّ اصطلح تسميته بالـ"البرادايم"، يفسّر العلماء من خلاله كامل الظواهر العلميّة الخاصّة بعصرهنّ/م. ولهذا البرادايم، بمعناه الواسع، جملةٌ من المعتقدات والقيم والتقنيّات المشتركة الّتي يعتقد بها وينتهجها العلماء، لتفسير الظواهر، حتّى إذا ما ظهرت ظاهرةٌ جديدةٌ يعجز بنيان هذا البرادايم عن تفسيرها، حينها تتشكّل ثورةٌ تطيح بهذا البرادايم، على الرغم من مقاومته الشرسة لها. بات واضحاً أنّ حراك السويداء قد وقع في فخ برادايم الثورة الّتي بتنا نرى أنّ مسارها السياسيّ قد وصل إلى أفقٍ مسدودٍ، خاصّةً مع ظهور مؤشّرات التفاهمات الإقليميّة الأخيرة في صدر المشهد السياسيّ. حصل هذا السقوط، عبر استخدام الشعارات ذاتها الّتي استخدمتها الحركات الاحتجاجيّة منذ آذار من عام 2011. كان هذا إضافةً للرموز والتقنيّات الاحتجاجيّة ذاتها كرفع علم الثورة والمظاهرات المسائيّة والكثير من الأساليب الاحتجاجيّة الّتي كنا قد تفاعلنا معها وعشنا من خلالها جلّ مشاعرنا؛ بدءاً من الفرحة بالصرخة الأولى، إلى الشعور باقتراب النصر، حتى الوصول للانكسار والهزيمة على مختلف الأصعدة السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة. فبدا المشهد للجميع بأن ّهذه الاحتجاجات ما هي إلّا امتدادٌ للحراك السوري منذ عام 2011، وهذه أول المفارقات الّتي أراها تختلف وحقيقة الواقع على الأرض. وكأنما أبناء السويداء قد استشعروا الحرج في تعبيرهنّ/م الصريح عن المطالب المعيشيّة ببعدها الاقتصاديّ، والّتي كانت المولِّد الأساسيّ لهذه الموجة من الاحتجاج. يمكن فهم هذا الحرج إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نهج التفكير الحذر الذي تنتهجه أيّ أقليّةٍ دينيّةٍ ضمن محيطٍ أكثريٍّ، خاصّةً بعد صراعٍ أُريد له أنّ يُصوّر على أنّه بين أكثريّةٍ وتحالفٍ من الأقليّات. فوَّت هذا الحرج فرصة إعادة الاحتجاج إلى دوره ضمن المعادلة السياسيّة السوريّة، حتى ولو بمطالب ذات سقفٍ أقلّ بكثيرٍ من سابقاتها في باقي الساحات، مطالبُ قد تشكّل الخطوة الأولى لدرب المكاسب المتراكمة ضمن الحقل السياسيّ. فقبل عامٍ، وفي ظلّ اللحظات الحرجة على الصعيدين المحليّ والإقليميّ، كان لدى أبناء السويداء فرصةٌ لإعادة إنتاج موجةٍ جديدةٍ من الاحتجاجات الّتي ستكون جامعةً للشعب السوريّ ومهمّةً لفعاليّة مشاركتهنّ/م المواطنيّة. لكن سرعان ما ضعفت احتمالات تحقّق هذه الفرصة، خاصّةً مع محاولات اختزال هذا الحراك داخل السويداء ببرادايم ثورة العام 2011، لتنكفئ بعدها الحركات الاحتجاجيّة في باقي المناطق بعد أيّامٍ قليلةٍ من تفاعلهنّ/م مع الاحتجاج في السويداء، وهو انكفاءٌ يبدو مفهوماً لدى الشعب بعد تجربةٍ مريرةٍ على مختلف الصعد.
انحسرت أيضاً كثير من إمكانات الحراك بعد صعود الرموز الجماعاتيّة الدينيّة لأبناء السويداء ضمن تظاهرات ساحة الكرامة. هذه الشعارات، وإن كان من الممكن تفسيرها في بعدها الثقافيّ، إلّا أنّها "ستزيد الطين بلَّةً" على المستوى السياسيّ، لما للسياق السوريّ من حساسيّةٍ وتعقيدٍ في ذلك. ومع امتداد الوقت وصعود الصوت الجماعاتيّ مُمثّلاً بالفصائل المسلّحة ورجال الدين وأبرزهم الشيخ حكمت الهجري، بات البعد المواطني بمعناه السياسيّ الفرديّ في مهب التجاذبات داخل الساحة (ساحة الكرامة). وكأنّما الحالة الجامعة الّتي امتاز بها الحراك في بدايته باتت تمايزاً تتّسع، مع الوقت واختبارات المواقف، المسافات بين أطرافه.
يتوازى كلّ ما سبق مع استمرار العمل الاجتماعيّ والسياسيّ الّذي تقوم به السلطة، من خلال نهجها لتفكيك هذه الحالة، عبر العديد من الإجراءات البسيطة المستمرّة؛ تارة بالترغيب من خلال مبادرات التسويات الأمنيّة للفارّين من الخدمة العسكريّة، وأصحاب السوابق وغيرهنّ/م، فضلاً عن عروض التطوُّع ضمن السلك العسكريّ بشكلها الجديد ذو المردود الماليّ المرتفع نسبيّاً. وتارةً بالترهيب عبر تعيين محافظٍ ذو خلفيّةٍ أمنيّةٍ معروفةٍ، ومحاولة نصب الحواجز داخل المدينة، والفيديوهات المسرّبة للتعزيزات الأمنيّة والعسكريّة القادمة إلى المحافظة. كلّ ذلك من شأنه إضعاف الأثر الحقيقيّ الّذي كان ممكناً لهذا الحراك، والّذي كان من الممكن توظيفه، عمليّاً، في منطق العمل السياسيّ الداخليّ حتى وإن كانت حدوده ضيّقةً داخل جغرافيا السياسة السوريّة.
إن مشاركتنا المواطنيّة هي فعلٌ سياسيٌّ، والسياسيّة كالطبيعة كلتاهما مثلما تكرهان الفراغ، فإنّهما لا تعرفان العودة للخلف. وهدف النقد هو تفادي ما يمكن تفاديه من الأخطاء مستقبلاً؛ فالفراغ هنا، تشكَّل خلال مرحلةٍ سبقت موجات الاحتجاج في السويداء، نتيجةً لعجز النُخب السياسيّة عن تشكيل جسد عملٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ واحدٍ على الأقل، يكون بإمكانه اقتناص مثل هذه اللحظة ليعبّر من خلال قيمه ومبادئ عمله عن حاجات الناس تعبيراً عمليّاً، وليشارك في تأسيس ملامح رؤيةٍ سياسيّةٍ منبعثةٍ من أيديلوجيّته، رؤيةٌ تقوم على أسس الواقع وإمكاناته تبعاً لقراءة المشهد السياسيّ السوريّ بمعطياته ومتغيراته الكثيرة. وعند عدم تحقّق ذلك، كان من الطبيعيّ أن تستعيض القوى الفاعلة عن هذا الدور إما ببرادايم الثورة المهزومة بالمعنى السياسيّ، أو عبر استحضار الإرث الجماعاتيّ وما ينضوي عليه من بنىً تقليديّةٍ ورموزٍ من شأنها إضعاف البعد المواطنيّ الفرديّ وتهميشه. فلا مناص إذاً من وجود تنظيماتٍ سياسيّةٍ مؤسسيّةٍ حقيقيّةٍ تنطلق من مبادئ وقيمٍ محدّدةٍ، لا من موقفٍ آنيٍّ، تمُكّنها من تشكيل رؤيةٍ سياسيّةٍ واضحةٍ، وطرح برامج للعمل. وإن تعذّر ذلك الآن، وهذا طبيعيٌّ، فعلى الأقل يمكن الاستفادة من المساحة المشتركة الّتي خلقها المحتجّات/ون لأنفسهنّ/م، من أجل التّلاقي والحوار وتقييم المرحلة السَّابقة، تقييماً منطقيّاً على أساس ما اكتُسب وما فات، للخروج أخيراً من المنظور الانتحاريّ القائل: "لم يعد لدينا ما نخشى خسارته". فعلى الأقل لم نزل أحياء!
عقاب فخر باحث وناشط مجتمعي سوري، من محافظة السويداء، يدرس الماجيستير في الفلسفة العربية والعلوم الإنسانية. مهتم وناشط في الشأن السوري العام منذ عام 2011، ويعمل في المجال البحثي الاجتماعي منذ ما يقارب الخمسة أعوام.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت
Berliner Häuser Hiroshimastraße 17 and 28 D-10785 Berlin
+49 (0)30 26 935-7495
info.syria(at)fes.de
This site uses third-party website tracking technologies to provide and continually improve our services, and to display advertisements according to users' interests. I agree and may revoke or change my consent at any time with effect for the future.
These technologies are required to activate the core functionality of the website.
This is an self hosted web analytics platform.
Data Purposes
This list represents the purposes of the data collection and processing.
Technologies Used
Data Collected
This list represents all (personal) data that is collected by or through the use of this service.
Legal Basis
In the following the required legal basis for the processing of data is listed.
Retention Period
The retention period is the time span the collected data is saved for the processing purposes. The data needs to be deleted as soon as it is no longer needed for the stated processing purposes.
The data will be deleted as soon as they are no longer needed for the processing purposes.
These technologies enable us to analyse the use of the website in order to measure and improve performance.
This is a video player service.
Processing Company
Google Ireland Limited
Google Building Gordon House, 4 Barrow St, Dublin, D04 E5W5, Ireland
Location of Processing
European Union
Data Recipients
Data Protection Officer of Processing Company
Below you can find the email address of the data protection officer of the processing company.
https://support.google.com/policies/contact/general_privacy_form
Transfer to Third Countries
This service may forward the collected data to a different country. Please note that this service might transfer the data to a country without the required data protection standards. If the data is transferred to the USA, there is a risk that your data can be processed by US authorities, for control and surveillance measures, possibly without legal remedies. Below you can find a list of countries to which the data is being transferred. For more information regarding safeguards please refer to the website provider’s privacy policy or contact the website provider directly.
Worldwide
Click here to read the privacy policy of the data processor
https://policies.google.com/privacy?hl=en
Click here to opt out from this processor across all domains
https://safety.google/privacy/privacy-controls/
Click here to read the cookie policy of the data processor
https://policies.google.com/technologies/cookies?hl=en
Storage Information
Below you can see the longest potential duration for storage on a device, as set when using the cookie method of storage and if there are any other methods used.
This service uses different means of storing information on a user’s device as listed below.
This cookie stores your preferences and other information, in particular preferred language, how many search results you wish to be shown on your page, and whether or not you wish to have Google’s SafeSearch filter turned on.
This cookie measures your bandwidth to determine whether you get the new player interface or the old.
This cookie increments the views counter on the YouTube video.
This is set on pages with embedded YouTube video.
This is a service for displaying video content.
Vimeo LLC
555 West 18th Street, New York, New York 10011, United States of America
United States of America
Privacy(at)vimeo.com
https://vimeo.com/privacy
https://vimeo.com/cookie_policy
This cookie is used in conjunction with a video player. If the visitor is interrupted while viewing video content, the cookie remembers where to start the video when the visitor reloads the video.
An indicator of if the visitor has ever logged in.
Registers a unique ID that is used by Vimeo.
Saves the user's preferences when playing embedded videos from Vimeo.
Set after a user's first upload.
This is an integrated map service.
Gordon House, 4 Barrow St, Dublin 4, Ireland
https://support.google.com/policies/troubleshooter/7575787?hl=en
United States of America,Singapore,Taiwan,Chile
http://www.google.com/intl/de/policies/privacy/